أفاطم لو شهدت ببطن خبت، وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
يقال ان
بشر بن عوانة العبدي: له قصة خلاصتها: أنه عرض له أسد، وهو ذاهب يبتغي مهرا لابنة عم له، فثبت للاسد، وقتله، وخاطب أختا له (فاطمة) بقصيدة هي أروع ما قيل في موضوعها، مطلعها: (أفاطم لو شهدت ببطن خبت، وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا) .
يقال انه أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته فآلى ألا يُرعي على أحدٍ منهم(3)، إن لم يزوجه ابنته. ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته(4) إليهم. فاجتمع رجال الحي إلى عمه وقالوا: كف عنا مجنونك.
فقال: لا تلبسوني عاراً، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل.
فقالوا أنت وذاك.
ثم قال له عمه:
- إني آليت ألا أزوج ابنتي هذه إلا من يسوق إليها ألف ناقةٍ مهراً، ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة(5).
وغرض العم كان أن يسلك بشرٌ الطريق بينه وبين خزاعة، فيفترسه الأسد، لأن العرب قد تحامت من ذلك الطريق، وكان فيه أسدٌ يسمى داذاً وحيةٌ تُدعى شجاعاً.يَقُولُ فِيِهِمَا قَائِلهُمْ:
أَفْتَكُ مِنْ دَاذٍ وَمِنْ شُجَاعٍ *** إِنْ يِكُ دَاذٌ سَيِّدَ السِّبَـاعِ
ثم إن بشراً سلك ذلك الطريق، فما نَصَفَهُ حتى لقي الأسد، وقَمَصَ(6) مُهْرُه، فنزل وعقره(7) ثم اخترط سيفه إلى الأسد (8) واعترضه وقطَّه(9)، ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه:
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَـبْـتٍ *** وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْـرَا (10)
إِذاً لَـرَأَيْــــتِ لَـيْثـاً زَارَ لَـيْثـاً *** هِــــــزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقـى هِـزَبْـرَا
تَبَهْنَسَ ثم أحجم عَنْهُ مُهْـرِي *** مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْـرَا
أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّـي *** رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا
وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْـدَى نِـصـــــالاَ *** مُحَدَّدَةً وَوَجْهـــــاً مُـكْـفَـهِــــراًّ
يُكَفْـكِـفُ غِـيلَةً إِحْـــــدَى يَدَيْهِ *** وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلـىَّ أُخْـــرَى(11)
يُدِلُّ بِمِخْـلَـبٍ وَبِـحَـدِّ نَــــــابٍ *** وَبِاللَّحَظاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَـمْــــرَا(12)
وَفي يُمْنَايَ مَاضِي الحَدِّ أَبْقَـى *** بِمَضْرِبهِ قِــراعُ المْـوتِ أُثْـرَا
أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا فَعَـلَـتْ ظُـبـــــــاهُ *** بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِـيتَ عَـمْــــــرَا
وَقَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَيْسَ يَخْـشَـى *** مُصَاوَلةً فَكَيفَ يَخَافُ ذَعْرَا ؟!
وَأَنْتَ تَرُومُ للأَشْـبَـالِ قُـوتــــــاً *** وَأَطْلُبُ لابْنَةِ الأَعْمامِ مَـهْــــرَا
فَفِيمَ تَسُومُ مِـثْـلــــي أَنْ يُوَلِّـي *** وَيَجْعَلَ في يَدَيْكَ النَّفْسَ قَسْرَا؟
نَصَحْتُكَ فَالْتَمِسْ يا لَيْثُ غَـيْرِي *** طَعَامـــاً؛ إِنَّ لَحْمِي كَـانَ مُـرَّا
فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّ الغِشَّ نُـصْـحِـــــى *** وَخالَفَنِي كَأَنِي قُلْتُ هُـجْــــــرَا
مَشَى وَمَشَيْتُ مِنْ أَسَدَيْنَ رَامـا *** مَرَاماً كانَ إِذْ طَلَبـاهُ وَعْــــرَا
هَزَزْتُ لَهُ الحُسَامَ فَخِلْتُ أَنِّـــــي *** سَلَلْتُ بِهِ لَدَى الظَّلْماءِ فَجْـرَا
وَجُدْتُ لَـهُ بِـجَـائِشَةٍ أَرَتْــــهُ *** بِأَنْ كَذَبَتْهُ مَا مَـنَّـتْـهُ غَــــــدْرَا
وَأَطْلَقْتُ المَهَّنَد مِـنْ يَمِـيِنــــــي *** فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَـشْــــرَا
فَخَرَّ مُـجَـدَّلاً بِـدَمٍ كَــــــأنـيَّ *** هَدَمْتُ بِهِ بِناءً مُـشْـمَـخِـــرا
وَقُلْتُ لَهُ: يَعِـزُّ عَـلَّـــــــي أَنِّـــي *** قَتَلْتُ مُنَاسِبي جَلَداً وَفَـخْـــرَا؟
وَلَكِـنْ رُمْتَ شَـيْئاً لـمْ يَرُمْـــــهُ *** سِوَاكَ، فَلمْ أُطِقْ يالَيْثُ صَبْـرَا
تُحاوِلُ أَنْ تُعَلِّمـنِـي فِــــــرَاراً! *** لَعَمْرُ أَبِيكَ قَدْ حَاوَلْتَ نُـكْــــرَا!
فَلاَ تَجْزَعْ؛ فَقَدْ لاقَـيْتَ حُـــــرًّا *** يُحَاذِرُ أَنْ يُعَابَ؛ فَمُـتَّ حُــــــــرَّا
فَإِنْ تَكُ قَدْ قُتِلْتَ فَلـيْسَ عَــــــاراً *** فَقَدْ لاَقَيْتَ ذا طَرَفَـيْنِ حُــــــرَّا
فلمّا بلغت الأبيات عمه ندم على ما منعه من تزويجها وخشي أن تغتاله الحية فقام في أثره، وبلغه وقد ملطته سَوْرة الحية(13). فلما رأى عمه أخذته الحمية ، فجعل يده في فم الحية، وحكَّم سيفه فيها. فَقَالَ:
بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ *** لَمَّا رآهُ بِالعَرَاءِ عَمُّـــهُ
قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُـهُ وَأُمُّـــــــهُ *** جَاشَتْ بِهِ جَائِشَةٌ تَهُمُّهُ
قَامَ إِلَى ابْنٍ للفَلاَ يَؤُمُّـــهُ *** فَغَابَ فِيهِ يَدُهُ وَكُـمُّـــــهُ
وَنَفْسُهُ نَفْسِي وَسَمِّي سَمُّهُ
فلما قتل الحية قال عمه:
إني عرضتُك طمعاً في أمرٍ قد ثنى الله عناني عنه، فارجع لأزوجك ابنتي.
فلمّا رجع جعل بِشر يملاً فمه فخراً، حتى طلع أمردُ كشق القمر، على فرسه، مدججاً في سلاحه. فقال بِشر:
- يا عم، إني أسمع حسَّ صيدٍ. وخرج فإذا بغلامٍ على قِيْدٍ(14).
فقال:
- ثكلتك أمك يا بِشر، أن قتلت دودة تملأ ما ضغيك فخراً(15)؟
أنت في أمانٍ إن سلمت عمَّك.
فقال بشر: من أنت؟ لا أم لك!
قال: اليومُ الأسود والموتُ الأحمر.
فقال بشر: ثكلتك مَنْ سَلَحَتْك(16).
وكر كل واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكن بِشرٌ منه وأمكنَ الغلامَ عشرون طعنةً في كلية بشرٍ، كلما مسَّه شبا السِنان(17) حماه عن بدنه، إبقاء عليه. ثم قال:
- يا بشر، كيف ترى؟ أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرمح؟
ثم ألقى رمحه واستل سيفه، فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف، ولم يتمكن بشرُ من واحدة.
ثم قال:
يا بشرُ، سلِّمْ عمَّك واذهب في أمان.
قال: نعمْ ولكن بشريطة أن تقول لي:
من أنت؟
فقال: أنا ابنك.
فقال: سبحان الله! ما قارنتُ عقيلة قط (18)، فأنَّى هذه المنحة؟
فقال: أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك.
فقال بشر:
- تلك العصا من هذه العُصَيّة(19) هل تلد الحية إلا الحية؟
وحلف: لا رَكبً حِصاناً، ولا تزوج حَصاناً(20)
ثم زوَّجَ ابنة عمِّه لابنه. الهوامش:
(3) أقسم ألا يبقي على أحد.
(4) مفردها: المعرة، وهي الشر والأذى.
(5) خزاعة: من كبريات قبائل العرب.
(6) رفع يديه معاً وطرحهما معاً.
(7) قطع قوائمه بالسيف.
(8) استل سيفه ومشى إلى الأسد.
(9) قطعه
(10) بطن خبت: اسم مكان – الهزبر: من أسماء الأسد.
(11) يكفكف: يقبض – غيلة: خدعة.
(12) يُدلُّ: يتيه ويظهر تكبره.
(13) سطوتها.
(14) أي على مسافة قصيرة كطول الرمح.
(15) يريد: تملأ فمك. وقوله: أن قتلت، معناه: لأنك قتلت (بتقدير حرف جر محذوف).
(16) أي رمت بك من بطنها، وولدتك.
(17) طرف الرمح.
(18) أي ما تزوجت امرأة كريمة.
(19) أي أن الشيء الجليل يكون في بدء أمره صغيراً. وهو مثل من أمثال العرب.
(20) بفتح الحاء: المرأة العفيفة.
أفاطم لو شهدت ببطن خبت، وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
Reviewed by Unknown
on
6:00 ص
Rating: